( أي تشابه مع الواقع هو صُدفة )
أحب دوما أن استعيد قصة سلطان كان زميلاً لي في العمل مرة كنا ساهرين وتطرقنا للحديث عن السفر أيام الشباب . قال سلطان : هناك أشياء جميلة لا تحدث إلا مرة واحدة في العُمر . قلت ؛ كيف ؟ قال : في عام ١٤٠٤ تعرف أني سافرت ورفضت أن أعود . قلت : عطني السالفة من ( طقطق ) للسلام عليكم . قال : عام ١٤٠٤ كنت أدرس ثاني ثانوي وتوقفت عن الدراسة ، لم أعد أذهب للمدرسة ، كنت داشر كلاب غفر الله لي . فقالت أمي : رح لخالك يوظفك بالمعرض . أبي كان قد طلّق أمي وتزوج وهو نادراً يسأل عني . لكنّه يخرجني من التوقيف ( الشرطة ) إذا قُبض عليّ أو حصلت مشاكل كالمضاربات المدرسية . ذهبت لخالي وعملت معه في معرض سيارات بالنسيم ، عملت لمدة أشهر وجمعت مبلغا من المال ، أعطيت أمي جزءاً كبيراً منه ، ثم تركت المعرض وكنت أسهر الليل وأنام النهار بدون هدف أو معنى من الحياة . كان لي أصدقاء سوء وعصابة شر لم أرَ أدشر منهم وفي ليلة بعد أن سهرنا بمقهى وتعاطينا الباعشن والسندي فتضخّمت رؤوسنا . قال أبو سكروب ( دايما يستخدم سكروب في المعارك ) : ياعيال ، تعالوا نسافر برّا . أيّد كلامه ( السوسة ) طبعا ليس اسمه هو يغضب جدا لو قيل له سوسة وأنما هذا مايقال خلفه . لم يكن السفر بتلك السهولة فيجب عليك أخذ موافقة ولي أمرك إذا كنت أقل من الواحد وعشرين سنة . كان أبو سكروب والسوسة قد تخطوا السن ، أمّا أنا فلم اتجاوز التسعة عشر ولهذا دخلت بمحاولات مع أبي وبعد مداولات ومشادات ، ذهب معي واستخرجت تفويض السفر . قررنا الذهاب إلى المغرب في منتصف الشتاء وهذا الرأي أن البلد يكون أرخص من أيام العطلات والاجازات واكتشفت بعد ذلك أن لافرق فالمغرب مزدحم صيفا وشتاءً . حجزنا على خيارك الأوحد في زمنها ( السعودية ) لمدة عشرة أيام . أعطانا صديق متمرس بالسفر رقم سائق وقال : راح يدبركم . أول ما وصلنا المطار بالدار البيضاء ذهبنا لكبينة اتصال ( لم يكن الجوّال أُخترع ) وكلّمنا السائق خالد فحضر وكانت الرحلة طويلة وشاقة وهي المرة الأولى التي أركب طائرة فاستأجرنا شقة في حي راق . لم أقاوم النوم ونمت نوم الخليّ من الهموم واستيقظت باكرا ومعدتي تقرصني من الجوع وصاحباي كانا قد حثلا ما أمكن لهما ووقعا صريعين وتلمست طعاما فلم أجد ، نزلت إلى الشارع ، في يوم ضبابي وبرد قارس ، أخذت ساندوتش من محل مفتوح وعدت إلى الشقة وكانت المسؤولة عن الشقة ” أم سمير ” موجودة وبدأت ترحب بلهجة قريبة للهّجة السعودية . الشغالة هي إذا الليل جنح بسواده أتتك بالظبي في قياده . كانت رحلة ممتعة بين سهر وأنس إلاّ أن آخر ثلاث أيام هي التي ” عفستني ” أو عسفتني وذللت للهوى ركابي . كنّا نستعد للعودة عندما جاءت خديجة عذبة لذيذة كالصباح كابتسام الوليد ، كنت أظنها عابرة هوى وتمضي إلى أرشيف الذكريات ، علّقتني من الليلة الأولى وكنت صعباً قياديا . جاءت في الليلة ماقبل السفر ، ثم اتخذت قراري ، ألغيت حجز العودة وتفاجأ صاحباي وقالا : الرحيل أو الردى فقلت هما أمران أحلاهما مرُّ . اذهبوا في حفظ الله ، أما أنا سأبقى . كرّرا المحاولة ولم تنفع توسلاتهما . قال السوسة : ياولد خل نرجع ونعوّد بعد شهرين . قلت : هذا الكلام تقوله لو كان لي قلبٌ يطيق الفراق . سافر صاحباي وأعطياني ماتبقى معهما من مال ، أبو سكروب بياع كبير والفلوس ماتشكل عليه، ودّعتهما وعدت مع السائق . كانت تدرس التمريض . أحببتها بكل جوارحي ثم قررت أن اتزوجها . ذهبنا معا إلى حفلات موسيقية ومطاعم وكنت أحدّث نفسي يمكن أملّها أو أرى منها تصرفا يجعلني أكرهها . كانت لطيفة وحبّوبة وكالنسيم الهادئ حديثها ، أقلعت عن الزيارات الأخرى وصرفت كل وقتها معي . تنهض الصباح وتأخذ كتبها وتلبس لباس التمريض وتذهب لكليتها ، تعود قرب الظهر وقد أحضرت طعاما فتوقظني ونأكل سويا . ثم نخرج إلى مقهى أو حفل وعشت كأني شهريار ونسيت نفسي . قلت :خديجة ، أريد الزواج منك ؟! تفاجأت قالت : كيفاش ندير ؟ قلت : أنا أحبك ولا أطيق فراقك . نتزوج وأعود أدبّر موضوع قدومك . لم تتحمس للفكرة لحرصها عليّ ومن المضحك أنها كلّما بيّنت صعوبة ذلك ازددت اصرارا . قالت : لابد أن تزور أمي في بني ملال . في يوم غائم ركبنا مع الشاب خالد وهو أيضا قريته في بني ملال ، سافرنا طريقا طويلا وكانت تمطر علينا ، كان خالد يتوقف ليمسح زجاج السيارة ، بعد أربع ساعات دخلنا بني ملال وثم بدأ رحلة للقرية التي تسكنها أمها فقد كانت يتيمة الأب . في طريق متعرج وموحل ، حتى وصلنا لمنزل متواضع من غرفتين وحوش وزريبة أبقار وماعز ، مع المطر كانت رائحة البقر والحيوانات تملأ المكان ولكنها بأنفي أفخم عطور الأرض وقد أحببتها ومن أجلها أحببت زريبتها وأخوالها كلبا كما قال الشاعر . دخلت قبلي لتهيئ أمها للمفاجأة ، خرجت ومع ولد بحدود العاشرة ولبسه مهترئ ، كان يرتجف منالبرد ، ثم خرجت أمها ولم تكن كبيرة بالسن فوق الأربعين بقليل وعليها مسحة جمال غابر فعرفت أن العسل من تلك الخلية غير مستغرب . رحّبت بي والحقيقة لم أفهم من كلامها إلا بضع كلمات فهم ” أمازيغ ” كما فهمت من خديجة . دخلت غرفة بحصير وأثاث على بعضه ، هذه أفضل غرفة من الغرفتين وبدأت أمها ترفع بعض الفرش وتحسّن من المكان . أوقدت نارا وقربت لي المنقل . لم يعجبني أخاها كانت نظراته متوجسة وربما أعذره فهو يتعجب من هذا الغريب الذي اقتحم حياتهم . جاءت أمها بدجاجة وذبحتها ولو أنسى فلن أنسى بهجة خديجة وفرحتها وتلك الابتسامة وهي تقول : أنا أطبخ لحبيبي الاكل اللي يحبّو ” كبسة ” طبعا ليس مع الرز ، لا أعرفه ربما هريس أو شيء من أنواع الحبوب ولذيذ جدا . قضيت وقت من أجمل ماقضيت في حياتي وكان المطر يتسرب من الأعلى والولد يصعد ويضع بعض الخيش ولكنها كانت متعة بالنسبة لي . نمت في ركن الغرفة وصحوت على نقاش حاد وصراخ بين خديجة وأمها ولكني تصنعت النوم . يبدو أن أمها كانت ترفض زواجها إلا بعد أن تحصل على الدبلوم . في الصباح استيقظت وكان المطر قد أقلع وبدأت الشمس تبسط أجنحتها على المكان ، أحضرت لي خديجة فطورا ( فول وجبن وخبز ) والغريب أنهم لايعرفون الشاي الأحمر وجاءت بحليب ماعز مسخّن من شربته ماعينت خير . كان وجهها حزينا وعيناها محمرتان وقلبي شعر بالألم لهذا الوجه البريء أن يكتسي بغلالة الحزن . كانت تلتف بشال أبيض كأنها غيمة وظللت أحملق فيها وأمعن النظر لعلها تضحك أو تبدي اشارة . لكنها خرجت قبل أن تنهار بالبكاء .
في منتصف اليوم جاء السائق وركبنا وكان الصمت رفيقنا . بعد أن وصلنا قلت : خديجة ما الذي حدث ؟! أخبرتني برفض أمها ، حضنتها وقبّلتها وقلت : لو يقف العالم ضدنا سننتصر وبدأت أقنعها بالزواج حتى لو من طرفنا . لكنها كانت إلى جانب جمالها عاقلة وذكية وقالت : نتزوج بطريقة قانونية ثم تذهب وتعود إلى أن أكمل دراستي . قفزت فرحا بقرارها وكانت هناك بعض الأوراق الرسمية التي لابد من إكمالها من الداخلية المغربية والسفارة السعودية وتعرقلت المعاملة مرات ، غلطتي … آه غلطتي التي لا أنساها . بقيت بنفس الشقة ، طبعا كنت أعيش على أجنحة السحاب ، نسيت أهلي ولم يخطر ببالي أبداً أنهم سيعرفون مكاني . السوسة أخبر خالي ووالدي بالعنوان وعن قراري بعدم العودة . في يوم وكنا جالسين أنا وخديجة طُرق الباب . فتحت أم سمير الباب وقالت : اثنان يريدانك سي سلطان . ذهبت لأجد والدي وخالي وكان الكف هو السلام من والدي واسطوانته المعهودة يالهامل يالداشر . صرخت : أحبها ياناس أحبها ! لكن من يفهّم خالي وأبوي الحب ومعنى الحب . قال خالي : ابك أنت مسحور ، لا عز الله مسحور وقاما بطرد خديجة والله إن مرآها وهي تخرج بحقيبتها البسيطة كخروج روحي من جسدي . احتجزاني بالقوة وبعد يومين كانا يرافقاني للمطار . عدت لكن قلبي لم يعد . أخذوني لأطباء ورقاة يقولن : مسحور ، والله لا مسحور ولا شي ، لكن من يقنع الناس . دخلت بحالة اكتئاب حاد وأحيانا كانت تمرني خديجة كطيف ساحر في الحلم ، وكان هذا هو أجمل مايمر بي .ماخلوا طب والا شيخ سمعوا به إلا أخذوني له يقرا علي. طبعا الجواز أخذه أبوي وإلى اليوم ماشفته . صمت سلطان . قلت : هاه وبعدين كمّل . قال : الباقي أنت تعرفه ، كمّلت الثانوية ودخلت الكلية وتخرجت وتزوجت بنت خالي والسلام . قلت : أبو سكروب والسوسة وش صار عليهم ؟! قال : تركتهم من تلك السفرة . يقولون : أبو سكروب مسجون ، والسوسة صار إمام مسجد . قلت : ماحاولت ترجع الآن بعد عشرين سنة . قال : جاءتني دورة خارجية بفرنسا وقلت أروح للمغرب وأدوّر عليها ، فعلا ذهبت هنام للقرية وإذ البيت مكانه عمارة حديثة وسألت جيرانهم .
قالوا : الأم ماتت والولد غاطس في مراكش وأمها خديجة فقد هاجرت ، ناس يقولون تزوجت من مغربي بكندا وناس يقولون غيرت هويتها وسافرت لفرنسا ، ضاع آخر خيط يمكن أن أجدها . قلت : سلطان الخيرة فيما اختاره الله ، لاتحزن ولا تفكر ، طبعا هذه حكمة الستين والواحد لا يمكن أن يهرب من قدره المكتوب .
دمتم بخير .