الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين . .. أما بعد
فالرحمة خلق رفيع ، وخصلة نبيلة … كيف لا ! وقد وصف الله بها نفسه في أكثر من موضع من كتابه الكريم منها قوله تعالى : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا ! مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً } والآيات في ذلك كثيرة جدًا.
وحد الرحمة باختصار شديد هي : مشاركة الآخرين ألأمهم وأفراحهم إذ أن الرحمة عبارة عن انفعالات وعواطف تعرف بظواهرها لا بحقيقة تكوينها.
ولقد سطر لنا إمامنا وقدوتنا الأولى المطلقة نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم الرحمة في أروع صورها بمختلف أشكالها وألوانها.
جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : عثر أسامة بعتبة الباب فشج وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أميطي عنه الأذى )) فتقذرته فجعل يمس عنه الدم ويمجه عن وجهه ثم قال : (( لو كان أسامة جارية لحليته وكسوته حتى أنفقه )) الصحيحة 1019 ، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يقوم فزعا ً إلى أسامة بن زيد حبه وابن حبه ، وينظف وجهه وجرحه من الدم وما علق في وجهه من تراب ونحوه ، وهو يسكته ، ويهدى من روعه بالعبارات السابقة ، كما لو سقط أبن أحدنا فإنه يقوم إليه ، ويلاطفه بألفاظ مطيبة للخاطر ، منسية للألم مثل : سأذهب بك إلى البقالة ، أو سأشترى لك لعبة ، ونحو ذلك من الألفاظ حتى تهدأ نفسه ، وينسى الألم.
وفي ذات يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً في مسجده وسط أصحابه فإذا بالحسن بن علي رضي الله عنهما يمر من أمامه فتحركت عاطفة الأبوة بين جنبيه الطاهرين ورق قلبه العظيم له فأمسك به وقبَّله فقال الأقرع بن حابس التميمي : يا رسول الله تقبلون الصبيان ؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : نعم ! قال : والله لي عشرة من الصبيان ما قبلت أحداً منهم . فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقال : (( أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك من لا يرحم لا يرحم )) ، بل إن رحمته تجاوزت حدود البشرية لتشمل جميع المخلوقات.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل قد ضجع شاة وهو يحد شفرته فقال له : (( أتريد أن تذبحها ذبحتين هلا حددت شفرتك قبل أن تضجعها )) فهذه المواشي أيها الأخوة تدرك وتعرف أنها ستذبح؛ وهذا أمر ملاحظ جدًا فأنت عندما تذهب إلى سوق الغنم لتشتري ذبيحة فإنك وبمساعده البائع وقد تحتاج إلى شخص ثالث حتى يساعدوك على إدخال هذه الذبيحة إلى السيارة، فهي تقاوم بكل ما أوتيت من قوة؛ لكن إذا نزلت المسلخ، ورأت الذبح أمامها فما هو حالها ؟ تأمل كيف أنك ستسحبها سحبًا و بلكراع وهي مستلقاة على الأرض لا تستطيع الوقوف على رجليها لأنها انهارت تمامًا مما تراه من مشاهد الذبح وألوانه؛ فليتنا نرحم هذه الدواب ولا ندخلها إلى المسلخ إلا بعد حجز الرقم وانتظار الدور وشرا الكرتون والأكياس المخصصة للـَّحم ، فالرحمة هنا مطلوبة .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال صلى الله عليه وسلم : (( ما من إنسان يقتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها إلا يسأل الله عنها يوم القيامة )) قالوا : وما حقها يا رسول الله ؟ قال : (( حقها أن تقتلها فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمى به )) ، انظروا أيها الأخوة إلى رحمته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام ، فلقد شملت رحمته البر والفاجر والحر والعبد البُهم والناطق ، لقد شملت الجميع.
فأين الذين يصيدون أكثر من حاجتهم ، وأين من يتعلم الصيد في هذه الطيور ألا يعلمون أنهم قد وقعوا في المحذور.
إذًا عزيزي القارئ فالرحمة صفة إلهيه وخلق نبوي كريم حريٌ بنا أن نتخلق به وأن تجتهد في التحلي به لعل الله أن يرحمنا برحمتنا لخلقه.
شكا رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة في قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم (( إذا أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم أطعم المسكين )). هذا أحد الحلول لإذابة جليد القسوة المتجمدة على القلب فما أحوج اليتيم إلى من يشفق عليه ويرحمه، وما أحوج من قسى قلبه إلى الشعور باليتيم وبحاجته إلى المحبة والعطف التي فقدها، كما أن إطعام المسكين والإحسان إليه دليل على رقة القلب وشفا فيته، وهو حلٌ لمن يشكو قسوة قلبه.
والله عز وجل أرحم الراحمين ورحمته سبحانه وتعالى سبقت غضبه وهي قريبه من عباده المؤمنين ، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سبي ، فإذا امرأة من السبي قد تَحلـُبُ ثديها تسقي، إِذ وجدت صبيًا في السبي أخذته، فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم : (( أترون هذه طارحة ولدها في النار )). قلنا : لا ! وهي تقدر على أن لا تطرحه، فقال : (( لله أرحم بعباده من هذه بولدها )). متفق عليه.
فرحمته واسعة، ولكن يجب أن نجتهد في طاعته سبحانه وتعالى والخوف منه ولا نستمر في الذنوب والأثام متكلين على سعة رحمته من غير عمل فتجد الإنسان منغمس في الشهوات والمعاصي ، وإذا كلمته قال لك : يا أخي الله غفور رحيم ؛ أو : يا أخي الله رحمته واسعة؛ وغيرها من العبارات؛ فنقول : نعم الله غفور رحيم ولا ننسى أنه شديد العقاب ولا ننسى قوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا } لمن ستكتب هذه الرحمة للعصاة المتخاذلين ؟! ! لمن ستكتب . { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }.
ختامًا فقد يشوب الرحمة بعض الأمور كرحمت من لا يستحق الرحمة من الظالمين الذين تقام عليهم الحدود الشرعية، أو من يكون مصدر خطر و مثار رهب فيكون من مصلحة العامة أن يكف شره وضرره وأن يؤخذ على يده رحمة به وبالناس أجمعين. وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
أبو عبد الله فهد بن فرج الأحمدي
دمتم بخير .