أسباب الفلاح كما بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّة ..؟

قياسي

من الأمور المشتركة بين بني الإنسان أن كل واحد منهم يبحث عن السعادة، والمُصيب منهم حقاً مَنْ التمسها في نصوص الوحي واستوحاها منه، فهو منبع الخير ومَطلعُ الهداية، ولأن الله عز وجل هو خالق الناس جميعاً فَمَن خَلَقَ الخَلْق وأتقنه وأحسنه لا بد أن يعلم ما يُصْلِحه ويُسْعده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، ولأن اهتمام الوحي بالأساس مُنْصَبٌّ على تهذيب الإنسان والرقي بالنفس البشرية إلى مدارج الكمال، ومن هداية الوحي حديثه عن المفلحين وبيان أهم صفاتهم التي تؤهلهم للفوز والفلاح والطمأنينة والراحة النفسية.

معنى الفَلاَح :

فلَح الشَّخصُ يَفلَح فَلاحًا، فهو فالِح: فاز ظفِر بما يريد.
وعَرَّفَه الإمام المناوي بأنه: الفوز بالبُغْية في الدارين. كما عَرَّفَه الشيخ السعدي بأنه : اسم جامع لحصول كل مطلوب محبوب، والسلامة من كل مخوف مرهوب.
وقسّمه العلماء الى نوعين: دنيوىّ، وأُخروىّ.
فالدّنيوى: نيل الأَسباب الَّتى بها تطِيب الحياة. وهى البقاءُ (الصحة والعافية)، والغِنى، والعِزَّ.
والأُخروىّ: أَربعة أَشياءَ: بقاءٌ بلا فناءٍ، وغنى بى فقرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ وعلم بلا جهل. لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: “اللهمّ لا عيش إِلا عيش الآخرة” ([1]).

أسُسُ الفلاح كما بَيَّنَهَا النبي الكريم:

أوصاف المفلحين مبثوثة في سور القرآن وآياته، كما اهتمت السنة النبوية ببيان طرف من دعائم الفلاح، من ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: «قد أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه».
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب في الكفاف والقناعة، وقد أورده الإمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين، في بابين متتابعين، الأول : باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
والثاني: باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير ضرورة.
ورواه أيضا الإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، باب ما جاء في الكفاف، بلفظ: «طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافاً وَقنِعَ» .
ولفظ  طُوبَى (مفرد): مؤنَّث أطيبُ. ومعناها غبطة وسعادة، وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب، وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}: والمعنى : لهم كل مستطاب في الجنة من بقاء وعِزّ وغنى، ويقال: طُوبَى لك و طوباك: لك الحظّ والعَيْش الطَّيِّب، وطُوبَى لكم: كونوا سُعداءَ جدًّا.
وطُوبَى أيضا اسم عَلَم للجنّة أو لشجرة فيها.
وفيما يلي محاولة متواضعة لتوضيح معالم ودعائم طريق السعادة والفلاح كما بينها هذا الحديث النبوي الشريف.

الأساس الأول : الهداية للإسلام.

لا شك أن الإسلام تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى قدر إسلام الوجه والقلب والجوارح واللسان لله -تبارك وتعالى- على قدر ما يحصل للعبد من الفلاح؛ لأن النبي علقه بذلك في قوله (قد أفلح من أسلم)، والحُكْم المُعَلَّق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.

ووجه كون الإسلام سبباً في الفلاح:

– أنه سبب لنجاة العبد من النار ودخوله الجنة، قال تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) ، ولن يقبل الله من أحدٍ ديناً غير الإسلام.
– أن الإسلام  أكمل الشرائع وأفضلها، وأعلاها وأجلها، فهو الدين الذي ارتضاه الله عز وجل لجميع البشر منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وهو دين الأنبياء والمرسلين جميعًا.
– أنه دين الفطرة ، كما أنه حرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد.
– أن من مقاصده الأساسية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولا يمكن لإنسان أن يهنأ بعيش أو راحة في ظل انتقاص أو غياب واحد من هذه المقاصد. فماذا سيكون حال الانسان لو غاب او انتقص جُلُّ هذه المقاصد.
– أن ما شرعه من أحكام وعبادات وأخلاق هدفها تنظيم حياة الإنسان، وبث الراحة والطمأنينة والسعادة في نفسه، ولتجعل منه مخلوقاً مكرماً يعيش لهدف، ليس كل هَمَّه أن يأكل ويشرب ويتمتع كما تفعل الأنعام.
وبشكلٍ عام يمكن القول أنَّ الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، وقد استفاض الإمام ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) في بيان ذلك عند تفسيره لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ …} [الأنفال: 24]، فقال ما ملخصه :
فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها:
أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنا، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.

والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:

النوع الأول: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره.
النوع الثاني: حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغَيّ والرشاد، والهوى والضلال.
فكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه، فيصير حيًا بذلك النفخ، وإن كان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول البشري من الروح الذي أُلْقى إليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه بهذا الروح فهو ميت…([2]).

الأساس الثاني : الكفاية من الرزق

قد يهدي الله العبد للإسلام، ولكنّه يُبْتَلى: إمّا بفقرٍ يُنسِي، أو غِنَىً يطغي، وكل مِنهُمَا ملهاة تُورث الهمّ والغمّ وَالْقَسْوَة أو المذلة، فمن أراد به الله الخير والفلاح كان رزقه كفافاً، لأنه سلم من تَبِعَةِ الغنى وذُلّ سؤال الخلق.
وحَدُّ الكفاف : أن يجد الإنسان ما يدفع ضروراته وحاجاته ويَكُفَّ قلبه ولسانه عن سؤال الناس والتطلع إلى ما في أيديهم.
وغني عن التنبيه أن المراد بالرزق الحلال؛ لأنه لا فلاح مع رزق حرام .
وفي فضل الكفاية يروي لنا أبو الدّرداء- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى ،…([3]).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون رزق آل محمد ما يقوتهم ويكفيهم فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ ارزق آل محمّد قوتا»([4]). وفي رواية عند مسلم: “كفافاً”
والقوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ويَكُفُّ عن الحاجة، سُمِّيَ قوتا لحصول القوة منه، وهو بمعنى الكفاف. والمعنى: اكفهم من القوت ما لا يرهقهم إلى ذُلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترف والتبسط في الدنيا.
قال العلامة المناوي (المتوفى: 1031هـ):
وقد احتج بهذا مَنْ فَضَّل الفقر على الغنى، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة متوسطة بين الفقر والغنى، وخير الأمور أواسطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا)، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال، والكفاف حالة سليمة من آفات الغنى المطغي، وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما، فهي أفضل منهما([5]).

الأساس الثالث : القناعة التامة بما قسم الله له.

قد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً، ولكنه لا يقنع بما آتاه الله، بل يكون في قلق دائم وتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار، وقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة، فمثل هذا فقير القلب والنفس، من هنا جاء الأساس الثالث ليكتمل بذلك مثلث الفلاح (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).

تعريف القناعة :

قنَعَ، يَقْنَع، قَناعةً، فهو قانِع وقَنوع وقَنِع، وقنِع الشَّخْصُ بالشَّيء: رَضِيَ بما أُعْطِي وقَبِلَه، عَكْس (حَرَص)، والقانع: الرّاضي بما قسم الله.
قال ابن عَلَّان الشافعي (المتوفى: 1057هـ):
(وَقَنَّعَهُ) أي صَيّره قانعاً، ولعل التضعيف (أي: تشديد النون في قوله: وَقَنَّعَهُ) إيماء إلى بُعْد هذا الوصف عن طبع الإنسان، فمن حاول إزالتها يحتاج إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها إلَّا مَنْ عَصَم الله، وقليل ما هُم، وكأن المعنى: وجعله الله بِخَفِيِّ ألطافه قانعاً بما أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث: أن من حصل له ذلك فقد حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين([6]).
ووجه كون القناعة سببًا للفلاح؛ أنها تمنع صاحبها من الوقوع في الظلم، والتطاول على الأموال المحرمة، وبسبب ذلك يَهْلَكُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كما مشاهد في الواقع المُعَاش.
وجه ثان: أنَّ الطامع – وهو عكس القانع- كلما حصل على شيء من أمور الدنيا طلب غيره، وهَلُمَّ جَرَّا، فنَفْسَهُ فقيرة أبدا حتى يقبض ملك الموت روحه وهو على تلك الحالة الخبيثة، مِنْ غير استعداد للموت ولا تأهب له، وفي ذلك خسران مبين.
وهناك وجه آخر : وهو أن الحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة القلب، وسكونه وطمأنينته. والقناعة أحد الأسباب لتحقيق ذلك، فبسببها يكون المسلم راضياً برزقه، منشرح الصدر والبال، لذلك كان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: « اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ»([7]).
ومن أقوال الحكماء: أطول النّاس غمّا الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، القناعة كنزٌ لا يَفْنَى، العبدُ حُرٌّ إذا قنَع، والحرُّ عبدٌ إذا طمِع، خير الغنى القنوع وشرُّ الفقر الخضوع، من لزم القناعةَ نال عِزًّا، من لم يقنع باليسير لم يكتفِ بالكثير.
ومن عيون الشعر العربي:

والنّفس راغبة إذا رغّبتها … وإذا تردّ إلى قليل تقنع

وفي الختام أود الاشارة الى أمرين هامين:
الأمر الاول: ليس معنى القناعة والكفاف أن يلازم الإنسان بيته ويقعد عن طلب الرزق، ويقول: إنني راضٍ بحالي، بل عليه أن يسعى بِجِدٍّ واجتهاد في طلب الرزق، استجابة لقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وكان أحد السلف إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَوَقَفَ على بَابِ الْمَسْجِدِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنِّي أجبتُ دعوتَك، وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ([8]).
وكذلك استجابة لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك:15]، وخوفاً من الإثم المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)([9]).
الأمر الثاني : لا يُفهَم من الحديث ذم الغنى أو مدح الفقر وقد أشار الإمام المناوي (المتوفى: 1031هـ) إلى أن صاحب الحالة- التي أشار اليها الحديث الشريف- معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلَّا السلامة من قهر الرجال وذُلِّ المسألة([10]).
نسأل الله أن ييسر لنا طريق الفلاح، وأن يجعلنا من الفالحين المفلحين، اللهم آمين، وصلى اللهم على النبي الأمي وعلى آله وصحبه اجمعين.

دمتم بخير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *