بسم الله الرحمن الرحيم
( بِر الوالدين شواهد قُرآنية وأقوالٌ ترغيبية )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبة أجمعين. أما بعد :
-
شواهد قرآنية في بر الانبياء :
لقد ضرب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم النماذج الخالدة في برهم بآبائهم وأمهاتهم ومن ذلك :
سيدنا نوح عليه السلام حيث ذكر لنا الله عز وجل نموذجا من بره بوالديه حيث كان يدعو ويستغفر لها كما في قوله تعالى ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ) سورة نوح ايه 28.
-
سيدنا ابراهيم الخليل عليه السلام كان يخاطب اباه بلطف ، واشفاق بالغ ، وحرص اكيد ورغبة في هدايته ونجاته، وخوفا من غوايته وهلاكه كما في قوله تعالى ( واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا، إذا قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا، يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ) سورة مريم (41 -45).
-
سيدنا اسماعيل عليه السلام يضرب أروع أمثلة البر في تاريخ البشرية وذلك عندما قال له ابوه ( يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك ) فماذا كان رد ذلك الولد الصالح ؟ كان رده كما اخبر الله تعالى عنه ( افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ) الصافات 102 .
-
سيدنا عيسى عليه السلام يأتيه الثناء العطر، والتبجيل العظيم من ربه وهو ما يزال في المهد بأنه بار بأمه، وقرن هذا بعبوديته لربه عز وجل قال تعالى ( وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا ) مريم 32 .
-
قال ابن عباس رضي الله عنه : ما من مؤمن له أبوان فيصبح ويمسي وهو محسن إليهما إلا فتح الله له بابين من الجنة. وقال أبو الليث السمرقندي : لو لم يذكر الله تعالى في كتابة حرمة عقوق الوالدين , ولم يوص بهما, لكان يُعرف بالعقل أن خدمتهما واجبة. وقال هشام بن عروة مكتوب في الحكمة : ملعون من لعن أباه, ملعون من لعن أمه.
-
قال بعض الصحابة : ترك الدعاء للوالدين يضيق العيش على الولد. وقال كعب : إن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقاً لوالديه ليعجل له العذاب , وإن الله ليزيد في عمر العبد إذا كان باراً ليزيد براً وخيراً. وقال أبوبكر بن أبي مريم قرأت في التوراة : من يضرب أباه يقتل . وكان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض , ثم يقول لأمه : ضعي قدمك على خدي.
-
كان محمد بن سيرين إذا اشترى لوالدته ثوباً اشترى ألين ما يجد , فإذا كان عيد صبغ لها ثياباً , وما رفع صوته عليها, كان يكلمها كالمصغي إليها , ومن رآه عند أمه لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامة عندها. وقال سعيد بن عامر: بات أخي عمر يصلي , وبت أغمز قدم أمي , وما أحب أن ليلتي بليلته. وكانت أم منصور بن المعتمر فظةً غليظةً عليه وكانت تقول : يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فتأبى , وهو واضع لحيته على صدره , ما يرفع طرفه إليها.
-
أراد كهمس العابد : قتل عقرب , فدخلت جحر فأدخل أصابعه خلفها فلدغته , فقيل له بذلك : قال : خفت أن تخرج , فتجيء إلى أمي تلدغها. وعن عبدالله بن عون : أن أمه نادته فأجابها فعلا صوته صوتها فأعتق رقبتين كفارة لذلك.
-
قيل أراد أحمد الأبار الرحلة إلى قتيبة , فلم تأذن له أمه , ثم ماتت فخرج , فلما وصل إلى بلخ مات قتيبة , فكانوا يعزونه على هذا ,فقال : هذا ثمرة العلم , إني أخترت رضى الوالدة . وقال علي رضي الله عنه: بر الوالدين من كرم الطبائع.
-
قال عبدالله بن عباس : كن مع الوالدين كالعبد المذنب الذليل للسيد الفظ الغليظ. وقال وهب بن منبه : بلغنا أن الله تعالى قال لعُزير عليه السلام : بر والديك , فإن من بر والديه رضيت , وإذا رضيت باركت , وإذا باركت بلغت الرابع من النسل. وسئل الحسن عن الوالد والوالدة فقال : حق الوالد أعظم , وبر الوالدة ألزم.
-
كان الربيع بن خثيم : يميط الأذى عن الطريق ويقول هذا لأمي , وهذا لأبي. وكان علي بن الحسن : لا يأكل مع والديه فقيل له في ذلك فقال : لأنه ربما يكون بين يدي لقمة أطيب مما يكون بين أيديهما وهما يتمنيان ذلك , فإذا أكلت بخست بحقهما. وقال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل: ( أن اشكر لي ولوالديك) من صلى الخمس فقد شكر الله ومن دعا لوالديه عقبهما فقد شكرهما.
-
عن أبي حازم : أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يحج حتى ماتت أمه. وسئل الحسن عن بر الوالدين ؟ فقال : أن تبذل لهما ما ملكت , وتطيعهما مالم تكن معصية. وسئل عطاء أن رجلاً أقسمت عليه أمه أن لا يصلي إلاّ الفريضة ولا يصوم إلا شهر رمضان . قال: يطيعها.
-
قال حميد : لما ماتت أم أياس بن معاوية : بكى , فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة , وأُغلق أحدهما. وقال عمر بن عبدالعزيز : لأبن مهران , لا تصاحب عاقاً ، فإنه لن يقبلك وقد عق والديه . ( لأن حقهما أوجب حقاً منه عليه ). وقال علي رضي الله عنه : لو علم الله شيئاً في العقوق أدنى من [ أف ] لحرمه. وقال أحد السلف : من عق والديه عقه ولده.
-
عن عون بن عبدالله قال : قال عبدالله : صل من كان أبوك يصله , فإن صلة الميت في قبره أن تصل من كان أبوك يصله بالدنيا . وعن الأشجعي أنه قال : كنا عند سفيان الثوري , فأقبل ابنه سعيد فقال: ترون هذا ؟ ما جفوته قط , وإنه ليدعُوني في الصلاة غير المكتوبة فأقطعها له . وكان حجر بن عدي : يلمس فراش أمه بيده , فيتهم غلظ يده , فيتقلب عليه على ظهره فإذا أمن يكون عليه شيء اضجعها.
-
عن الحسن البصري : أن رجلاً قال له : قد حججت وقد أذنت لي والدتي في الحج . فقال الحسن : لقعدة تقعدها معها على مائدتها أحب إليّ من حجك . وعن منصور بن المعتمر كان يقال : للأم ثلاثة أرباع البر . وقال عروة بن الزبير : ما بر والديه من أَحَدَّ النظر إليهما. وكان مورق العجلي : يفلي رأس أمه.
-
كان كهمس البصري : يعمل في الجص كل يوم بدانقين فإذا أمسى أشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمه. وقيل لعمر بن ذر لما مات ابنه : كيف بره بك ؟ قال : ما ماشيته قط بالنهار إلا مشى خلفي , ولا بالليل إلا مشى أمامي , ولا رقى سطحاً أنا تحته .
-
قيل لأعرابي : ما تقول في ابنك , وكان عاقاً ! فقال: بلاءٌ لا يقاومه الصبر , وفائدة لا يجب عليها الشكر. وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله جل وعلا : ( أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير) قال : فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه. وقال علي رضي الله عنه: من أحزن والديه فقد عقهما. وقال وهب بن منبه : في التوراة : على من عقّ والديه حقه الرجم.
-
ورأى ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يطوف بالكعبة حاملاً أمه على رقبته , فقال: يا ابن عمر أترى أني جزيتها ؟ قال : لا , ولا بطلقة واحدة , ولكنك أحسنت والله يثيبك على القليل الكثير. وقال بعض الحكماء: من عصا والديه لم يرا السرور من ولده .
-
قال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى وقّر والديك , فإن من وقّر والديه مددت له في عمره , ووهبت له ولداً يبره , ومن عق والديه قصرت عمره , ووهبت له ولداً يعقه. وقال ثابت البناني : أن رجلاً كان يضرب أباه في موضع , فقيل له : ما هذا ؟ فقال الأب أتركوه , فإني كنت أضرب أبي في هذا الموضع فابتليت بابني يضربني في نفس هذا الموضع . وعن أضبغ بن زيد قال : إنما منع أويس القرني أن يقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بره بأمه.
-
قال ابن محيريز : من دعا أباه باسمه أو كنيته فقد عقّه . وقال مجاهد : لا يدفع الولد يد والده عنه , بل يدعه يضع به ما يشاء . وقال الحسن : لا يعدل بر الوالدين لا حجٌّ ولا جهاد , ولا صدقة.
-
قال عثمان رضي الله عنه : ما قدرت أن أتأمل أمي منذُ أسلمت . وكان حارثة بن النعمان : يطعم أمه بيده , ولم يستفهمها كلاماً قط تأمر به حتى يسأل من عنده بعد أن تخرج : ماذا قالت أمي ؟ وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال : السلام عليك يا أمّاه ورحمة الله وبركاته , فتقول : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته , فيقول : رحمك الله كما ربيتيني صغيراً , فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيراً , وإذا أراد أن يدخل صنع مثله.
-
قال سفيان بن عيينة : قدم رجل من سفر فصادف أمه قائمة تصلي , فكره أن يقعد وهي قائمة , وقال بشر الحافي : الولد بقرب أمه بحيث تسمع نفسه , أفضل من الذي يضرب بسيفه في سبيل الله عز وجل , والنظر إليها أفضل من كل شيء. وقال الحسن : دعاء الوالدين للولد نجاة ودعاؤهما عليه أستئصال وبوار.
-
رأى موسى عليه السلام رجلاً عند العرش فغبطه بمكانه فسأل عنه , فقالوا : نخبرك بعمله , لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله , ولا يمشي بالنميمة , ولا يعق والديه. وقال الحسن البصري : من عقل الرجل أن لا يتزوج وأبواه في الحياة. وقال رجل لعبيد بن عمير: حملت أمي على رقبتي من خُرسان حتى قضيت بها المناسك , أتراني جزيتها ؟ قال: لا , ولا طلقة واحدة.
-
قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: ( وبالوالدين إحسانا ) قال: لا تنفض ثوبك فيصيبها الغبار. وقال عطاء بن أبي رباح في قول الله تعالى: ( ولا تنهرهما ) قال : لا تنفض يدك عليهما وقل لهما قولاً كريماً. وقال عون بن عبدالله : النظر إلى الوالدين عبادة قلت : فكيف البُر بهما .
-
قال عمر رضي الله عنه لرجل قتل نفساً : والذي نفس عمر بيده لو كانت أمه على قيد الحياة فبرها وأحسن إليها , رجوت أن لا يدخل النار. وكان ابن الحنيفية يغسل رأس أمه بالخطمي ويمشطها ويقبلها ويخضبها.
-
قال لقمان لأبنه : يا بني إن الوالدين باب من أبواب الجنة , إن رضيا عنك مضيت إلى الجنة , وإن سخطا حجبت. وقال بشر : أرى للأب والأم أن يأخذا من مال أبنهم ما يكفيهم , إذا كانا محتاجان.
-
قال جعفر سمعت عروة بن الزبير يقول في سجوده : اللهم أغفر للزبير بن العوام ولأسماء بنت أبي بكر. وقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس شيء أحط للذنوب من بر الوالدين. وقال يونس بن عبيد : يرجى للذي به رهق إذا كان باراً , وكان يتخوفون على أعماله إذا كان عاقاً. وقال بعض السلف : أفضل النفقة نفقة الرجل على والدية.
-
قال عطاء : لا يؤم الرجل أباه وإن كان افقه منه. وقال القيسي : قلت يا أبا هريرة , إن الجهاد قد فضله الله وإني كلما رحلت راحلتي جاء والداي فحطا رحلي قال : هما جنتك فأصلح إليهما. وقال مجاهد : دعوة الوالد لا تُحجب دون الله تعالى.
-
جاء رجل لابن عباس رضي الله عنه فقال : إني نذرت أن أغزوا الروم وإن أبواي يمنعاني ؟ قال: أطع أبويك , فإن الروم ستجد من يغزوها عنك. وقال الحسن: لا تقطع من كان أباك يصله فيطفأ بذلك نورك. وقال سعيد بن المسيب : إن الرجل ليُرفع بدعاء ولده بعده , ثم قال بيده هكذا فرفعها.
-
كان حيوة بن شريح : يقعد في حلقته يعلم الناس , فتطل له أمه , وتقول له : قم يا حيوة فالق الشعير للدجاج , فيقوم ويترك التعليم. وقيل : من لم يبر أبويه في حياته , لم تبك عيناك على وفاته. وقيل لمعاوية بن قرة : كيف أبنك معك ؟ قال: نعم الأبن كفاني أمر دنياي , وفرغني لآخرتي. وكان أبو هريرة يحمل أمه معه إلى المرافق وينزلها عنه , وكانت مكفوفة كبيرة.
-
كان الزبير بن هشام باراً بابيه , إن كان ليرقى إلى السطح في الحر فيؤتى بالماء البارد فإذا ذاقه فوجد برده لم يشربه وأرسله إلى أبيه. وقال الامام أحمد : بر الوالدين كفارة الكبائر. وعن عروة في قوله تعالى : ( وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : لا تمتنع من شيء أحباه. وقال أبو هريرة : ترفع للميت بعد موته درجته , فيقول : أي رب أي شيء هذه؟ فيقال: ولدك أستغفر لك.
-
وقال الحسن: للوالدة الثلثان من البر , وللوالد الثلث. وقال علي بن أبي طالب : العجب كل العجب , من عاقل يعق والديه بعد قراءته سورة لقمان , وقد قرنهما الله تعالى بنفسه.
-
وقال محمد بن سيرين : كنا عند أبي هريرة ليلة , فقال : اللهم أغفر لأبي هريرة ولأمي ولمن أستغفر لهما , قال محمد : فنحن نستغفر لهما حتى ندخل في دعوة أبي هريرة.
-
قال الشافعي : لو كنت مغتاباً أحد لغتبت أمي فإنها أحق الناس بحسناتي. وقال عامر بن عبدالله بن الزبير : مات أبي، فما سألت الله حولاً إلا العفو عنه. وقال ابن عباس : من نظر إلى أباه شزرا فقد عقه.
للأسف ظهر مؤخراً شباب وفتيات لا يراعون حق أبويهم ولا يرونه لازماً , يرفعون أصواتهم على الأب والأم , خاصة بعدما كبرا وضعفا واقتربا من القبر واحتاجا إلى العطف والبر, أنكروا حقهما وجحدوا معروفهما , فكم سهرا لتنام وكم جاعا لتشبع وتعبا لترتاح , والبر هو خدمتهما وطاعتمها بالمعروف , ومن فضل الله تعالى أن بر الوالدين لا ينقطع عنهما أحياءً وأمواتاً.
قاله كاتبه
د . محمد بن سليمان الواصل
دمتم بخير .
مرتبط