عليكم بالنوافل يا عباد الله
الحمد لله ما سبَّح المُسبحون، وما حمد الحامدون، وما كبَّر المكبرون، والصلاة والسلام على النبي الأمين محمد بن عبد الله، ما ذكره الذاكرون، وما غَفَل عن ذكره الغافلون، من الأولين والآخرين، وعلى آلهِ وصحبِهِ الطاهرين، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين. أما بعد :
فاتَّقُوا اللهَ الذي لا إله إلا هو؛ وأعلموا أن تقوى الله وَصِيته سبحانه لعباده أجمعين، من الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وأنها تكررت كثيراً في آيات القرآن الكريم لأهميتها ولعظيم شأنها؛ فهي سبيل النجاة، وهي سبب كل خيرٍ في الدنيا والآخرة، قال جل من قائل: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
وَاعْلَمُوا (بارك الله فيكم) أَنَّ تَقْوى الله سبحانه تعني أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقايةً تقيه وتحولُ بينه وبين العذاب، نسأل الله تعالى من فضله. وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بأَنْ يُطَاعَ الله تعالى فَلاَ يُعْصَـى، وَأن يُذْكَرَ فَلاَ يُنْسَـى، وأن يُشْكَرَ فَلاَ يُكْفَرُ، وأن تؤدى فرائضه، وأن تجتنب معاصيه.
أما حديثي إليكم في هذه الخُطبة فسيكون عن فضل النوافل من الطاعات والعبادات، والنوافل هي الأقوال والأعمال الصالحة التي يؤديها الإنسان من غير الفرائض، وتشمل كل عملٍ مشـروعٍ جاء الحث على أدائه طاعةً لله سبحانه، مع أنه ليس بواجب، إلا أنه يُحقق للعبد محبة الله ورضاه.
وباب النوافل كما قال العُلماء واسعٌ جداً، فهو بابٌ شاملٌ لكل قولٍ، أو عملٍ، أو نيةٍ يتنفلُ بها العبد بعد أداء الفريضة طاعةً لله سبحانه، سواءً أكانت بذكر الله تعالى، أو بقراءة القرآن الكريم وتلاوته، أو الصلاة، أو الصيام، أو الصدقة؛ وهكذا في كل عملٍ مندوبٍ مستحبٍّ غير واجب.
وقد جاء في الحديث القدسي الجليل الذي جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “إن الله تعالى قال: وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمعُ به، وبصـره الذي يُبصـرُ به، ويده التي يبطشُ بها، ورجله التي يمشي بها؛ وإن سألنـي لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذَنَّه” (رواه البخاري).
ويأتي من النوافل ما يُسمى بالسُّنن الراتبة أو السُّنن الرواتب، وهي السُّنن التي رُتبت على صلاة الفريضة؛ فتكون قبلها أو بعدها على مدار اليوم والليلة، وهناك من العُلماء من يُحددها باثنتي عشـرة ركعة.
ومن النوافل صلاة الليل أو قيام الليل التي جاء في شأنها قوله (صلى الله عليه وسلم): “أفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل” (رواه مسلم).
ومن أهم النوافل صلاة الوتر التي تُعد من صلاة الليل، وهي ما تُختم به صلاة الليل، وتُعد من أفضل وخير الصلوات التي يتقرب بها العبد إلى ربه، وقد ورد الحث عليها حتى أن هناك من العُلماء من يرى أنها باتفاق المسلمين سُنةٌ مؤكدة، ولا ينبغـي لأحد تركها.
ومن النوافل: صلاة الضُحـى التي قد تُصلى ركعتين أو أربعًا أو أكثر، وقد جاء في الحث على أدائها الأجر الكبير، والفضل العظيم.
ومن النوافل: سُنة صلاة الجمعة، وتكون بعد صلاة الجمعة حيث يُشـرع أن يصلي المرء أربع ركعاتٍ أو ركعتين في بيته أو في المسجد كما قال (صلى الله عليه وسلم): «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلِّ بَعْدَهَا أَرْبَعًا»، وثبت عنه (صلى الله عليه وسلم)، أنه كان يصلـي ركعتين في بيته.
ومن النوافل التي جاء الحث عليها، والترغيب فيها صلاة ركعتين بعد الوضوء فعن عثمان (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري).
وليس هذا فحسب؛ فهناك عددٌ من النوافل الأُخرى التي إنما شُـرعت لتعمل بإذن الله تعالى على إتمام ما قد يكون نقص على العبد عند أدائه للفرائض، ولتجبر خللها، وليفرح بها الإنسان يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا سَعَـى.
جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ورزقنا الله وإياكم العمل الخالص لوجهه الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخُطبة الثانية
الحمد لله الذي يقبل اليسير من العمل الخالص لوجهه الكريم، ويُجازي عليه بالأجر والثواب الكثير، والصلاة والسلام على من قام لله تعالى حتى تفطرت قدماه طمعاً في أن يكون عبداً شكوراً. أما بعد:
فأعلموا يا عباد الله أن النوافل من العبادات والطاعات على اختلاف أنواعها خيرُ ما يدَّخِرُه الإنسان ليوم المعاد، وهي من لُطف الله تعالى بعباده وتيسيره لهم، ولذلك فإنه يُشـرع للمسلم أن يتنفل في بيته، أو مكان عمله الذي يعمل فيه، بل إن من العلماء من قال: إن أداء الصلاة النافلة في البيت أفضل من أدائها في المسجد، عملاً بما صحَّ عن جابر (رضي الله عنه) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده، فليجعل لبيته نصيباً من صلاته؛ فإن الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيراً» (رواه مسلم).
والمعنى: إذا صليتم الفريضة في المسجد فاجعلوا بعضاً من النوافل في بيوتكم؛ ليقتدي بكم أولادكم وزوجاتكم وخدمكم، فيتعلم الصغير، ويتذكر الكبير، وتنزلُ في البيت الرحمة والملائكة. وقد جاء في ذلك أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، كَانَ يَقُولُ: “إِنَّ الْبَيْتَ لَيَتَّسِعُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَحْضُـرُهُ الْمَلَائِكَةُ وَتَهْجُرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَكْثُرُ خَيْرُهُ أَنْ يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَإِنَّ الْبَيْتَ لَيَضِيقُ عَلَى أَهْلِهِ وَتَهْجُرُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَتَحْضُـرُهُ الشَّيَاطِينُ، وَيَقِلُّ خَيْرُهُ أَنْ لَا يُقْرَأَ فِيهِ الْقُرْآنُ” (رواه الدارمـي في سُننه وضعفه الألباني).
أسأل الله أن يوفقنـي وإياكم لجميل القول، وخير العمل، وصالح النية، وأن يجعلنا من المُسارعين إلى فعل الخيرات، وترك المنكرات، وأن يوفقنا لعمل يرضاه قبل أن نلقاه، إنه على كل شيء قدير.
ثم اعلموا (بارك الله فيكم) أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأن خير الهدي هدي نبينا محمدٍ (صلى الله عليه وسلم)، وأن شـر الأمور محدثاتـها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على النبـي فقال جل شأنه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الطاهرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابع التابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشِـرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين في كل زمانٍ ومكانٍ يا أكرم الأكرمين، اللهم آمنَّا في بلادنا، وبارك لنا في ديننا ودُنيانا، وأصلح لنا ولاة أمورنا، وأحفظنا اللهم بحفظِك الذي لا يُرام، وأحرسنا بعينك التي لا تنام، وأحسن اللهم ختامنا، وارحمنا بعد مماتنا.
اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نُقْمَتِكَ، وَجَميعِ سَخَطِكَ.
اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، وأكفنا اللهم شـر الفتن والمحن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأُمهاتنا، ولإخواننا وأخواتنا، ولأولادنا وبناتنا، ولأزواجنا ولكل من له حق الدعاء من عبادك الصالحين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الأخرة حسنة، وقنا عذاب النار، يا عزيز يا غفّار، يا رب العالمين.
عباد الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
واذكروا الله العظيم الجليل يذكُركُم، وأشكُرُوه على نِعَمِه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
دمتم بخير .